العجب ليس هذا فقط، العجب هو ما الذي جاء به الآخرون الذين نُصِّبوا وجعلوا وكأنهم معالم أو هداة في التاريخ البشري، كما حدث على سبيل المثال لبعض فلاسفة اليونان.
إذا نحن نظرنا من خلال تاريخنا المعاصر التاريخ الحي؛ الذي نحن نقرؤه الآن وقد كثرت شواهده واستفاضت, وانتشرت بين البشر بما لم يكن من قبل؛ فإننا نجد أن فلاسفة اليونان كانوا في حالة يرثى لها في أمور كثيرة، -وقبل أن نبين ذلك قد يظن البعض أن هذا على سبيل الانتقاص أو الاحتقار، نحن نقررها وهذا ما قرره علماء الإسلام من قبل-.
نقول: إن ما يتعلق بالعلوم الطبيعية أو الفلكية أو الرياضيات أو ما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال فيه, وليس الكلام في هذه الأمور، الكلام فيما يتعلق بالله، فيما يتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى وهي أجل أنواع العلوم والمعارف، فيما يتعلق بالدار الآخرة, وأيضا فيما يتعلق باستقامة الفكر الذي تنتج عنه هذه العلوم الأرضية والعلوم البشرية.
مع الأسف نجد أن الفلسفة اليونانية بجميع مراحلها وإن كانت تُعد في نظر هؤلاء المفكرين الماديين أعظم المراحل أو هي النقلة للتاريخ الإنساني والبشري من مرحلة ما قبل الفلسفة إلى مرحلة الفلسفة التي هي عندهم مرحلة النور، عندما نجد من يكتب عن مراحل ما قبل الفلسفة في الفكر الغربي، يُذكر أن هؤلاء نقلوا العالم إلى مرحلة الفلسفة، وهي مرحلة الدليل العقلي والاستنباط والبينات والبرهان، وما قبلها في نظرهم مرحلة خرافة!
هل هذا الكلام صحيح؟! ماذا نجد إذاً؟!
نجد أن فلاسفة اليونان بينهم أولاً من التناقض والاختلاف الشيء الكثير جداً - الذي نأتي عليه إن شاء الله في موضعه- بل هناك مدارس مختلفة اختلافاً شديداً؛ فـ أفلاطون مختلف عن أرسطو ، و أرسطو اختلف عليه من بعده، فليس هناك منهج جامع يجمعهم، ولو نظرنا إلى أفضل ما جاءوا به فهو في العلوم التي يمكن أن يباريهم فيها أي إنسان! وهي كما قلنا نظرات في الطبيعة أو الطب أو في الفلك، والآن العلم البشري بل قبل قرون من الآن تجاوز علوم اليونان هذه؛ بل المسلمون العرب تجاوزوها بكثير في أيامهم، إذاً هذه لم يعد لها قيمة.
لكن فيما يتعلق بالله وفي معرفة الله تبارك وتعالى نجد أن أرسطو ومن قبله ومن بعده وتلامذتهم كانوا منحطين إلى درك الشرك، كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله تبارك وتعالى، كانوا يعتقدون في الموتى وفي الأضرحة والقبور مثلما يفعل المشركون من أهل الكتاب وغيرهم، كان أولئك الأقوام وأولئك الفلاسفة يعبدون الجن، ويسمونهم الآلهة وعندهم في جبل الأولمب في اليونان هذا يسمونه جبل الآلهة، فكثير منهم يقول: إنه يرى الآلهة وأنه يدعوهم، يؤمن بالخرافات الكثيرة جداً عن صراع الآلهة, وأن بعض الآلهة أقوى من بعض, وهكذا منحدرات من الشرك الذي يترفع عنه أدنى عاقل من أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وهؤلاء الذين يظهرون لهم ويتصورن لهم ويحدثونهم إنما هم من الشياطين من الجن الذين يعبدونهم, والذين أضلوهم كما أضلوا غيرهم من الأمم، فلم يكن أي فرق بين هؤلاء وهؤلاء، السحر والشعوذة والكهانة والدجل الذي نجده عند الحكماء العراة من الهنود وأشباههم، موجود ولكن بعد آلاف من السنين وبأنواع أيضاً من التحريف والتبديل بذاته وبنصه عند كثير من حكماء أو فلاسفة اليونان؛ على اختلاف مدارسهم وعلى اختلاف مناهجهم.
ما يمكن أن يعتبره المفكرون الماديون إنجازاً للعقل اليوناني هو أن يأتي من يرفض الغيب جملة، ونحن في الحقيقة لم نجد هذا, نقول: من خلال القراءة المستقرئة للفكر اليوناني لا تجد من ينكر الغيب جملة كما يتخيل أو تخيل بعض فلاسفة عصر التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا ! إنما يوجد على سبيل المثال من يفسّر الكون ونشأة الكون تفسيراً مادياً بحتاً، أي: لا يفترض أن الله تعالى هو الخالق؛ بل يأتي بتفسير يختلف عن رواية سفر التكوين في التوراة ، ويختلف أيضاً عن الروايات عن بابل وعن سومر وعن أشباهها في كيفية الخلق أو كيفية ما بعده من أحداث كالطوفان مثلاً، فاعتُبر طاليس أو غيره الذين قالوا: إن العناصر الأربعة هي التي تكوّن منها الكون, وأنهم لا يفترضون أن خالقاً خلقها وهي: النار والماء والهواء والتراب.
هذه نظرية مادية جديدة, واعتبروها فتحاً عظيماً في التاريخ الإنساني كما يزعمون، وقال بها أصحابها في القرن السادس والخامس قبل الميلاد أو السابع قبل الميلاد، بمعنى آخر قبل غزو الإسكندر بقرنين أو ثلاثة، وبناء على ذلك يظنون أن هذه أول نقلة في التاريخ من النظريات الغيبية أو الخرافة إلى الانتقال للفكر العلمي!
حقيقة الأمر أنه لا يوجد بهذا المصطلح بهذه الدقة أي شيء من ذلك.
كل هذه النظريات التي ورثها اليونان من الثابت ومن المؤكد أنهم مسبوقون بها وإليها، ونجد أن من الكلام العظيم الدال على عظم العلم وسعة الاستقراء؛ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه يذكر أن هذه العلوم اليونانية منقولة عن أهل الكتاب وغيرهم من الذين جاءوا بعد سليمان عليه السلام، يعني: في القرن العاشر قبل الميلاد، بعده بأربعة قرون عندما أخذ الناس عنه وعن الأنبياء الآخرين صلوات الله وسلامه عليهم علماً وتنويراً حقيقاً، ولكن حُرِّفت وطُمست؛ فنجد بعدهم بأربعة قرون يظهر هذا الفكر اليوناني؛ من خلال دراسات أهل الكتاب المنحرفين الذين نجد أنهم في التوراة نفسها -كما سوف نرى إن شاء الله- يعتبرون سليمان عليه السلام موصوفاً بصفتين: أنه ملك، وأنه حكيم, ولا يذكرون له صفة النبوة على الإطلاق!
فهذا الانحراف ولد عند اليونان -وهم لا يريدون أن يعترفوا أو يقروا لغيرهم بعلم خارق للعادة وخارج عن المألوف- فأخذوا هذا ونقلوه من العبرية وغيرها من اللغات إلى اللغة اليونانية، وأصبحت كثير من المصطلحات في اللغة اليونانية والفلسفة اليونانية نستطيع أن نرجعها إلى أصولها العربية، إما عن طريق اللغة العبرية, وإما عن طريق غيرها من اللغات.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع